يقول المصنف رحمه الله: [فرفع إصبعه الكريمة إلى السماء] هذا الحديث الجليل في خطبة الوداع رواه كل أصحاب كتب السنة ودواوين الإسلام تقريباً، لكن: هل كان رفعه صلى الله عليه وسلم ليده، أو لرأسه؟
ورد في البخاري (ثم رفع رأسه) -في آخر كتاب الحج.. باب الخطبة بـمنى - ولم يقل: (إلى السماء)، ولكن قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: إن الحافظ الإسماعيلي في مستخرجه زاد فقال: (إلى السماء) وواضح أن الرفع لا يكون -وخاصة في ذلك الموقف العظيم وفي مقام الاستشهاد- إلا كذلك، فكلمة الرفع بذاتها تدل على أنه كان إلى السماء، وأتت رواية الإسماعيلي رحمه الله فبينت ما أُجمل، وهو أن رفع الرأس كان إلى السماء.
وأما ما رواه الإمام مسلم من حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم -وفيه وصف حجته من أولها إلى آخرها تقريباً، وقد شرحه العلامة الشيخ الألباني رحمه الله- فإنه قال فيه: فقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء ثم ينكتها إلى القوم أو إلى الأرض؛ فـجابر رضي الله عنه يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال بإصبعه -و(قال) تأتي بمعنى (فعل) فإذا قلت: قال بيده كذا، فهو بمعنى: فعل بها كذا- رفع السبابة وأشار بها إلى السماء، ينكتها أو ينكبها بحسب الاختلاف في اللفظ، فكان صلى الله عليه وسلم يرفعها إلى السماء وينكتها، ويقول: {اللهم قد بلغت اللهم اشهد}.
فالنبي صلى الله عليه وسلم إذا أشار إلى ربه تبارك وتعالى في ذلك المجمع العظيم بالإصبع السبابة، وأشار إلى السماء مخاطباً ربه وهو يقول: {اللهم اشهد}، دلَّ ذلك على أن الله تبارك وتعالى في السماء، عالٍ على المخلوقات وفوقها جميعاً بما لا يحتمل التأويل.
وهذه السبابة هي التي صح فيها الحديث عند مسلم رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو بها في التشهد في صلاته، وهي التي يتشهد الإنسان بها ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، ويرفع إصبعه مشيراً بها إلى السماء، وفي الدعاء يدعو الإنسان في تشهده، وكذلك في خطبة الجمعة، وإن كان الأصل في الدعاء رفع اليدين، لكن -أيضاً- يدعى بهذه السبابة ويشار بها.
وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى بعض الصحابة وهو يشير في صلاته بإصبعين قال له: {أحّد، أحّد}، أي: ادعُ وأشر بإصبع واحدة؛ لأنها إشارة إلى الله ودعاء له، فلهذا قال له: (أحّد، أحّد). يعني: ادع بإصبع واحدة، وهي السبابة كما بين ذلك فعله صلى الله عليه وسلم في رواية جابر هذه، وكما بينته الأحاديث الأخرى كذلك.